أبو فلة … العنف الافتراضي والإرهاب الأنيق!

د. علاء رجب تباب (كاتب من سوريا)

إن التعاطي الاجتماعي والسياسي الإيجابي مع مسألة جمع التبرعات الإنسانية للاجئين من قبل الشاب “أبو فلة” أحد مشاهير اليوتيوب، يضع الثقافة الإنسانية العربية والإسلامية أمام حقبة جديدة تنتكس فيها المفاهيم وطرق التفكير ومعايير القياس والروز الاجتماعي. لم يعد يخفى على عاقل أن الخط السياسي العام في المشرق العربي، يسعى جاهداً بكل ما أوتي من مكرٍ وإعلام وقوة وتحكم، إلى تمكين نماذج “أبو فلة” من العقل الثقافي والاجتماعي والإنساني بكل وقاحة سياسية، بهدف إزاحة نماذج العلم والفكر والاتزان والقوة. فالمراد بذلك هو تحييد الشريحة الفكرية المسؤولة عن التربية والإعداد وصناعة الإنسان والتمكين الحضاري، والاستعاضة عنها بنماذج نقيضة تتصف بالعقم العاجز عن منح الحياة لخلايا الحضارة والثقافة العربية والإسلامية، وهذا ما يفسر بالطبع نصب آلاف المشانق والمعتقلات الجماعية للمؤثر المثقف في أغلب البلاد العربية. في المقابل هناك دعم لا محدود للـ”يوتيوبر العربي” المسؤول عن تسويق التفاهات وجذب الأطفال والشباب لألعاب البوبجي والفيديوهات القتالية الالكترونية، لأنه ببساطة يعتبر أداة لا فكرية وقالباً آمناً للاحتلال الساعي إلى تدجين وتأطير العقل العربي في إطار حلقة مفرغة لا معنى لأي حراك يجري في رحاها. هذا ولا شك أن تسويق “اليوتيوبر” المختص بهذه الألعاب القتالية هو بحد ذاته تكتيك ترويجي لتسويق الألعاب ذاتها والشبيهة بالمخدرات الالكترونية التي تؤثر بدورها على طرائق التفكير والوعي، كل ذلك يتم تحت غطاء الأمم المتحدة والمساعدات الإنسانية وزعم إنقاذ اللاجئ العربي من عوز الفقر والجوع والبرد، وهذا افتراء وكذب محض على العقل والإنسان! المراد باختصار ليس مساعدة اللاجئين، وهو أمر لو أرادته الدول لما عجزت عن فعله!، ولكن المراد هو تسويق هذه المخدرات الالكترونية والنماذج الاجتماعية الممسوخة فكرياً إلى البيئة الثقافية المضطربة والهيستيرية المستعدة لتقبل كل ما يناقض حضورها الثقافي واستقلالها السياسي وأمانها الاجتماعي، بسبب ما تعانيه من خلل مستفحل في المفاهيم والمعايير وأدوات القياس والتقدير الاجتماعي.

التصرف بعبثية

الغريب أن الأمم المتحدة وسلطات دولية وشرائح فكرية إسلامية ولا عنفية تسعى على قدم وساق وبدعم مؤسساتي إلى تغيير النصوص القرآنية التي تزعم بأنها تدعو إلى العنف والجهاد وتكريس القوة!، بالتوازي مع اعتقال علماء أصوليين معتدلين مؤثرين، بحجة تجفيف منابع الإرهاب وتطويقه، مع العلم أن الجهات ذاتها وبشكل قانوني ومؤسساتي تدعم تصنيع وتسويق أصحاب ألعاب الإرهاب الافتراضي أو الإرهاب الأنيق (البوبجي) داخل الحظيرة العربية والإسلامية اليوم! ما يخلق استفهاماً حول مدى جدية المؤسسات الدولية في محاربة الإرهاب في المشرق العربي! إن إصرار الجهات المعنية المسؤولة على التصرف بعبثية مع الواقع الاجتماعي العربي والإسلامي، سيحول البلاد العربية والإسلامية لمداجن سياسية ثقافية مسؤولة عن تفريخ الإرهاب وصناعة المرتزقة لصالح قوى الصراع السياسي المؤثرة في العالم، وذلك من خلال تهييج هذه المؤسسات لعاطفة الشباب والأطفال بواسطة تسويق الألعاب الاكترونية القتالية وأبطالها، بالتوازي مع تغييب العقل والقدوة الفكرية المسؤولة عن صناعة الاتزان ما بين العقل والعاطفة، ما يخلق لدى الجيل الحالي تخمة في العاطفة والانفعال وجفاف في المعلومة والعقل والقدوة الفكرية، ليتحول إلى شريحة سهلة الانقياد من الآخر الذي ربما يكون هو النقيض الثقافي لحضارة الجيل العربي، وبذلك تتحول العاطفة والحماس الشبابي في ظل غياب العقل والتعليم وتبصر الجيل بدينه وثقافته الحضارية، إلى أداة تعطيل حضاري تساعد على تجنيد الأطفال والشباب لمصالح نقيضة، وعندها نكون أمام ظاهرة خطيرة وهي تغييب العقل واستحضار العاطفة القابلة للقيادة والتجنيد لتحقيق مصالح الآخر السياسي أو العسكري أو الثقافي، بدلاً من أن تكون العاطفة والحماس أداة متزنة تتناغم مع العقل والتعليم، لتشكل قوة حركية دافعة قادرة على الحضور في منظومة حضارات العالم!

سلوك مادي

أما إحدى أخطر الظواهر التي طفت على السطح الاجتماعي إثر النشاط التبرعي لـ “أبو فلة”، هي السلوك الاجتماعي المادي الفاضح في تقديس الدولار وتسليع الإنسان، حيث لوحظ أن الرأي العام أصبح معياره الأساسي في الحكم على ما يقدمه الأشخاص هو المال فقط! فلم يعد على سبيل المثال، بإمكان الأستاذ المدرسي البسيط الذي يتقاضى 30 دولاراً أن يفوز بثقة الشرائح الاجتماعية المختلفة بسبب فقره، ناسياً هذا الواقع الظالم أن مثل هؤلاء لم يقدم 28 ساعة فقط أثناء البث المباشر، بل أفنوا أنفسهم وهم يقدمون كل أوقاتهم وأعمارهم إلى طلابهم! إلا أن الداعية محمود الحسنات أصر هو وغيره من المؤثرين على أن ما قدمه أبو فلة عجزوا عن تقديمه خلال دعوتهم، ليختصر كل ذلك بقوله: “سبقنا بها أبو فلة”!
أخيراً إن مشكلتي ليست مع “أبو فلة” فهو يعتبر أحد ضحايا السلطات السياسية الساعية إلى استنبات هذا النوع من قادة الرأي لعجزهم عن إدارة وصناعة العقول البناءة بالتوازي مع العاطفة الجياشة، إلا أن المشكلة الأساسية مع أتباع “أبو فلة” وخاصة الأسر والآباء التي قذفت بفلذة أكبادها في يم هؤلاء المؤثرين الذين يستنزفون قدرات الجيل بواسطة بيع الوهم وتسويق الألعاب الالكترونية القتالية الكفيلة بتحنيط العقل وتشويه العواطف وتأسيس دواجن الإرهاب الأنيق. وإليكم أيها الأسر، لا تغرنكم حملات التبرع أو قيام هؤلاء المؤثرين الافتراضيين إلى الصلاة أثناء اللعب الالكتروني، وغيرها من الطقوس الدينية الاستعراضية، هذا كله لا يبرر أو يشرع السلوك الخاطئ، فلا يمكن تبرير سلوك المصارع الذي يقامر عليه الجمهور لمجرد أنه يرتدي سروالاً شرعياً أو يسجد لله سجدة شكر!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى