من قتل علياً و عمر
حميد الكفائي
التفجيرات الانتحارية تعود إلى ساحات بغداد بعد غياب دام3 سنوات، إذ كان آخر تفجير انتحاري في ساحة الطيرانوسط بغداد في يناير 2018، وهي الساحة نفسها التي وقعفيها انفجار الخميس الماضي، الذي راح ضحيته 32 بريئاوجرح فيه 110 من العمال والكسبة والمتسوقين الفقراء.
وساحة الطيران، التي تزينها “جدارية فائق حسن” الشهيرة، ليست بعيدة عنساحة التحرير، معقل انتفاضة تشرين لعام 2019، وقريبة من سوق الشورجةالشهير المزدحم بالتجار من مدن العراق الأخرى، وهي منطقة يؤمها العمالالباحثون عن عمل يومي، وتقع قربها سوق شعبية يعمل فيها أصحاب المحالالمتحركة الذين يبيعون الملابس والحاجيات الرخيصة التي تستقطب الفقراء.
دأب الانتحاريون على استهدافها لأسباب عديدة، أولُها أنها مزدحمةبالمتسوقين والمارة، وبذلك توفر لهم أكبر عدد من الضحايا، وثانيها وأهمها، هوأنها غير محصنة، فليس فيها دائرة حكومية ولا يسكن قربها مسؤول، كي تهتملها الأجهزة الأمنية المسيسة، التي تزخر بغير المهنيين، وغير المكترثينبواجباتهم، والمسنودين (سياسيا) الذين لا يخشون فقدان مواقعهم، مهماأساءوا استخدامها أو قصّروا في أدائها، وهذه من كوارث العراق الجديد الذيأصبح فيه المنصب السياسي والإداري والأمني، يقدم لشاغليه كـ(حصة منالكعكة) وليس كمسؤولية تناط بالأكفأ والأقدر على تحملِّها، كما هو مألوف فيالدول الأخرى.
وقد سارعت أبواق الجماعات السياسية المتشدقة بالدين إلى اعتبار التفجيراستهدافا (للشيعة) من جماعة (سنية)، واعتبرته هدية نزلت عليها في الوقتالمناسب، من أجل أن تشن حملة لتأجيج الكراهية والانقسام الطائفي، الذيكانت قد وظفته سابقا لأغراضٍ انتخابية، لكن شباب العراق الواعي ركلوهبأقدامهم، فولّى إلى غير رجعة.
وتفترض هذه الجماعات الطائفية الفاسدة، المرتبطة بإيران، أو تحاول إقناعالعراقيين بالفكرة، بأن المناطق الفقيرة هي بالضرورة مناطق شيعية وأناستهدافها يحصل لأسباب طائفية، لكن الحقيقة هي أنه لا يمكن إطلاق صفةٍطائفية على أي سوقٍ شعبية أو منطقةٍ مزدحمة أو مرفقٍ خدمي أو دائرةٍحكومية أو حيٍ من أحياء المدن الكبيرة أو الصغيرة، فالعراقيون يعيشون معا،وغير منشغلين بهذه الأمور، وتجد التنوع المذهبي والقومي سائدا في المجتمعوحاضرا حتى ضمن البيت الواحد.
وبعد أن أطلقت الأبواق الطائفية صرخاتها (وهاشتاغاتها) “لأننا شيعة” و“لانريد عروبتكم“، في إشارة إلى ربط الانتحاريين بالدول العربية، في استعدادوتصميم على توظيف الحادثة طائفيا وسياسيا، لتشويه سمعة العرب، ودقِّإسفين بينهم وبين العراقيين، نقلت وسائل الإعلام خبر مقتل شقيقين في عمرالزهور، هما عمر وعلي، كانا ذاهبيْن إلى السوق لشراء الملابس، فهما من عائلةفقيرة، اتضح لاحقا، ولأسباب موضوعية، بأنها سنية المذهب. وقد ظهر والدالشابين، لؤي النعيمي، في تشييعهما يندب ولديه، ويصر على المبيت فيالمقبرة إلى جانب قبريهما، ما أبكى المجتمع العراقي بأجمعه. كما اتضح أيضاأن باقي الضحايا كانوا من أديان ومذاهب مختلفة.
لا شك أن الجماعات الطائفية وجدت في هذا الحادث الإجرامي فرصة لتأجيجالكراهية والانقسام الطائفي بين الناس، فهذه هي الوسيلة الوحيدة التيتعرفها كي تبقى في السلطة. فهي لا تسعى للبقاء عبر خدمة الناس، بل عبرخداعهم وتضليلهم. هذه الجماعات سعت دائما لأن يكون هناك اصطفافطائفي، كي تستفيد منه سياسيا، وتنصب نفسها حامية للطائفة ومدافعةعنها. الأحزاب الوطنية لا تنزل إلى هذا الحضيض، بل تصر على خطاب وطنيجامع وموحِد لأفراد المجتمع.
هل يمكن أن يكون هناك تواطؤ بين هذه الجماعات الإجرامية، التي تبدو لنامتناحرة ومختلفة، على قتل العراقيين وتوظيف الجرائم طائفيا وسياسيا؟مصادر أمنية قالت إن هناك خرقا أمنيا، ما يعني أن هناك من سهَّل وصولإرهابيي داعش إلى ساحة الطيران، وكرد فعل على هذا الخرق، أقدمت الحكومةعلى استبدال عدد من المسؤولين الأمنيين، لتقصيرهم أو قصورهم في أداءالواجب. لكن الإجراءات يجب أن تكون أكثر صرامة، فلابد من التحقيق فيكيفية عبور الإرهابيين، بأحزمتهم الناسفة، كل نقاط التفتيش وسط العاصمةدون أن يكتشفهم أحد.
لقد صدعت الجماعات الطائفية رؤوس العراقيين بأنها “حمت أعراضهم” وصدت داعش عن بغداد وهزمتها! لكنها، كلما وقع حادث إجرامي، سارعتلإلقاء اللائمة على داعش! فعندما اغتيل الدكتور هشام الهاشمي قالت إنداعش قتله، وقدمت العذر نفسه عندما أغتيلت الدكتورة ريهام يعقوبوالصحفي أحمد عبد الصمد في البصرة، وعندما قتل وخطف مئات الناشطينالآخرين في عموم العراق. أما قتلة شبان ساحة التحرير فقد قيل لنا أن “الطرفالثالث” قد قتلهم! هذا هو تأريخ هذه الجماعات في الكذب المفضوح، فكيفيصدق العراقيون بأنها غير متورطة في مقتل عمر وعلي وباقي ضحايا ساحةالطيران، وهم يعلمون بأنها متورطة في قتل ناشطي ساحات التحريروالخلاني والحبوبي والبحرية، وضالعة في الاغتيالات وأعمال الخطف والنهبوالتهريب المتفرقة؟
لابد أن يكون هناك تواطؤ مع الانتحاريين، الذين ربما وصلوا إلى ساحةالطيران بسيارات عسكرية لا تخضع للتفتيش، وكثيرون في العراق وخارجهيعتقدون بذلك، وقد عبر عنه الفنان فهد الخميسي برسم كاركتيري معبِّر، يشيرإلى علاقة إيران بالجريمة، والأمر يبدو معقولا خصوصا مع افتضاح احتضانإيران لإرهابيين من تنظيم القاعدة، الذي فضحه اغتيال أحد قياديي القاعدة،أبو محمد المصري، في طهران على أيدي عناصر متعاونة مع الموسادالإسرائيلي في أوغسطس 2020، حسبما نشرته صحيفة نيويورك تايمز، وأكدهوزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو. وقبل ذلك، قامت إيران، عبرجماعة نصر الله اللبنانية، بنقل مقاتلي داعش من الحدود السورية–اللبنانيةإلى الحدود العراقية، في فضيحة مجلجلة اختفت كليا عن الأبواق المواليةلإيران، وهي إن دلت على شيء إنما تدل على وجود علاقة تخادم بين إيرانوتنظيم داعش!
فإن كانت إيران تستضيف إرهابيين من طالبان والقاعدة، وتدعم مليشياتإرهابية في العراق وبلدان أخرى، وتوفر حافلات لنقل إرهابيي داعش منسوريا إلى العراق، فلماذا لا تتعاون مع داعش كي يبقى العراق ألعوبة بأيديهاتستخدمه كيف تشاء؟ لقد وظفت إيران الخلافات الطائفية توظيفا سياسيا منذزمن بعيد، وكانت وسائل إعلامها تؤجج الأحقاد الطائفية باستمرار، ونصبتنفسها حامية وراعية للشيعة في بلدان العالم المختلفة، بل أقنعت بعضهمبأنهم ضعفاء، وإنْ لم يستعينوا بإيران، فإن السنة سوف يضطهدونهم! لكنالحقيقة هي أن الشيعة تضرروا كثيرا من هذا الخطاب الإيراني الطائفي،خصوصا مع انخراط بعضهم في مليشيات إيرانية تعمل على تخريب بلدانهم.
لقد وظف القوميون الإيرانيون أحداث التأريخ العربي لتشويه صورة العرب،وروجوا خرافات وقصصا مبالغا فيها، ومعظمها مختلق كليا، وجعلوها صورةنمطية للعرب، وأوهموا بها البسطاء من الإيرانيين وأتباعهم. ورغم التبجحبالإسلام، إلا أن القوميين الإيرانيين لم ينسوا أن العرب هم الذين أسقطواالإمبراطورية الفارسية، ولا يترددون في التصريح باستيائهم من هذا الأمر،علما أنهم أصبحوا مسلمين بإرادتهم، ومن يعتنق الإسلام بحق، فلابد أنيحترم في أعماقه رموز المسلمين العرب، وهذا ما لم يفعله الإيرانيون طوالتأريخهم، ولا نريد أن ندخل بالتفاصيل لأنها مملة.
وينقل وزير الخارجية الليبي الأسبق، عبد الرحمن شلقم، في مقابلات متلفزة،عن القادة الإيرانيين قولهم إنهم الشعب الوحيد بين الشعوب الإسلامية الذييحق له أن يحكم المسلمين باعتبار “أن له حضارة أكثر مما للعرب والترك” الذينحكموا لفترات طويلة. ويضيف شلقم أن الإيرانيين لا يعترفون للعرب بفضل،سوى أن النبي منهم والقرآن بلغتهم، ويقولون إن “العرب لا تراثَ حضاريا لهم،وإنما سكان صحراء لا يجيدون سوى نظم الشعر“! أما الأتراك “فلا يجيدونسوى القتال“، وقد جاء الآن دور الفرس كي يحكموا المسلمين! وهذا تصريح لايقبل التأويل بأنهم يعتزمون التمدد خارج حدود إيران والسيطرة على البلدانالعربية “لأنهم الأجدر بحكم المسلمين” من الشعوب الأخرى.
والسيد شلقم لا يفتري على الإيرانيين، فقد كان لأربعين عاما وزيرا ومسؤولا فيحكومة العقيد القذافي المتحالفة مع النظام الإيراني سياسيا وعسكريا، وقدقدمت لإيران أموالا وأسلحة أثناء حربها على العراق، بينها صواريخ سكودالتي كانت تتساقط على رؤوس سكان بغداد والبصرة وباقي المدن العراقية،وهذا ما اعترف به شلقم في مقابلة مع قناة روسيا اليوم، متوفرة في موقعيوتيوب.
الشيعة العرب، خصوصا في العراق، حيث يتجاوز عددهم العشرين مليونا،ليسوا ضعفاء كي يحتاجوا إلى حماية الإيرانيين، وهذه الحقيقة يجب أنيعرفها العراقيون جميعا. لا يواجه الشيعة أي تهديد من أي مجموعة سكانية،دينية أو قومية، وقد عاشوا في كل دول العالم ضمن حدود الحرية المتاحةلغيرهم، والخطر الوحيد الذي يتهددهم هو طموحات حكام إيران التوسعية،ومحاولة توظيفهم كجنود ومرتزقة، ما يخلق لهم عداوات مع الشعوب الأخرى،الصديقة والشقيقة. لم تعد الدول أو الشعوب في العصر الحديث تصطف أوتتحالف على أسس دينية أو مذهبية. التقارب والتعاون والتحالف بين الدولتبنى على المصالح فحسب. لاشك أن كل إنسان لديه عقيدة وقيم روحيةوأخلاقية، لكن الانتماء للوطن هو الذي يُشكِّل هويته الأساسية، ويؤسس لقيمهالعليا. الأفكار والعقائد والولاءات تتغير وتتفاوت، لكن الانتماء الوطنيوالقومي متأصل ومرتبط بالوجود، ويسمو على كل ما يعتز به الإنسان.
في هذا العصر لا تستطيع الدول القوية أن تستولي على الدول الأضعف منها،فقانون الغاب لم يعد معمولا به في القرن الحادي والعشرين. هناك قوانينومواثيق دولية رادعة، وهناك دول عظمى وأمم متحدة تفعِّل القوانين الدوليةبالقوة، وفق مواد الفصل السابع، فلم يتمكن صدام من البقاء في الكويت، ولميتمكن الأسد من البقاء في لبنان، ولم تتمكن بريطانيا من البقاء في هونكونغرغم رغبة شعب هونكونغ ببقائها، وعلى حكام إيران أن يعلموا ذلك قبل فواتالأوان، وألا يستهينوا بإرادة الشعب العراقي الرافضِ للتبعية، والمصممِ علىانتزاع سيادته المنتهَكة، ولا بالإرادة الدولية الرافضة لانتهاك سيادة الدول،مهما كانت صغيرة أو ضعيفة. أولوية النظام الإيراني يجب أن تكون للتخلصمن العزلة الدولية والإقليمية، وهذا يحصل عبر احترام سيادة الدول الأخرى،وإعادة تأهيل نفسه كي يكون مقبولا إقليميا ودوليا.
التنوع الديني والطائفي والقومي والثقافي موجود في كل البلدان، ولميتسبب في زعزعة استقرارها، إلا في العراق، فإنه يُوظَف للتخريب والقتلوالخطف والابتزاز. هناك من يؤجِّج الكراهية، ويستخدم العنف كي يبقىمهيمنا ومتحكما، وهؤلاء، ومن يقف وراءهم، هم العدو الحقيقي الذي يجب أنيُهزَم كي يعيش العراقيون وباقي شعوب المنطقة بسلام