مستقبليات بلا مستقبل
د. ياس خضير البياتي
من طقوس الحضارات إلى الأبراج، حاول البشر دائمًا التنبؤ بالمستقبل. وأصبحت الثقة في التنبؤات والنبوءات جزءًا من الحياة اليومية المعاصرة. من توقعات العلم للطقس والأعاصير، والأقمار الصناعية ومداراتها، إلى تنبؤات المنجمين الكاذبة عن قيام الساعة وخزعبلاتهم المضحكة التي تحمل عشرات التفسيرات والتأويلات. فلا مجال للإنكار بأن حياتنا مبنية على كوكتيل من الخيال المستقبلي.
والقصة العلمية للحياة بدأت بالتحول من التخمين القائم على الأدلة في القرن العشرين الذي بدأه علماء المستقبل إلى التنبؤ بالمستقبل بفهم علمي للعالم بدلاً من الأسس التقليدية للنبوة (الدين، أو السحر، أو الحلم). فالتعديل الوراثي، ومحطات الفضاء، وطاقة الرياح، والأقمار الاصطناعية، وهواتف الفيديو، والإنترنت اللاسلكي، كلها تنبأ بها علماء المستقبل من عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. وبدت مثل هذه الرؤى مثل الخيال العلمي عندما نشرت لأول مرة. كثيرها خفي كجبل الثلج الغاطس في قاع المحيط.
تعرف ويكيبيديا الدراسات المستقبلية أو علم المستقبل على أنها (دراسة افتراض المستقبل المحتمل والمحتمل والمفضل، ووجهات النظر العالمية والأساطير التي تكمن وراءها). ونحن نقرأها كأنها جزء من علم التاريخ، ولكن بتفكير مستقبلي أو استشراف استراتيجي لتطوير بصيرة البشر من خلال دراسة منهجية شاملة قائمة على الأنماط الماضي والحاضر. وتحديد احتمالية الأحداث والاتجاهات المستقبلية المعتمدة على التخصصات العلمية المختلفة لغرض استكشاف كيف سيعيش الناس ويعملون في المستقبل.
فالمستقبل ليس فارغًا ولكنه محفوف بالافتراضات الخفية. على سبيل المثال، يتوقع الكثير من الناس انتهاء كورونا في المستقبل القريب، بينما يعتقد آخرون أن الفيروس الحالي سوف يستمر إلى أجل غير مسمى. وهنا يتدخل نهج التبصر إلى تحليل وإبراز الافتراضات التي تقوم عليها هذه الآراء.
لا يخفى أنّ الدراسات المستقبلية ليست جديدة. لكنها تشهد اليوم ازدهارا يستقطب اهتمام المفكرين والمنظرين الاستراتيجيين. ومن المؤكد أنّ الاهتمام بالمستقبل لا يعني نفي الماضي. فالذي يحسن فهم حاضره يهيئ لمستقبله بقدر ما يحسن توظيف ماضيه. وتلك هي المعادلة التي تتيح لنا صوغ العلاقة بين الأزمنة بصورة متوازنة. بقدر ما تتيح لنا التخلص من الطوباويات التي تغرقنا في أوهام مستقبل لا ينفك يبتعد.
خصوصية الدراسات المستقبلية وأهميتها تأتي في موقفها من الزمن من وجهة نظر منهجيّة. فعادة ما يَعِد الزمن متغيراً مستقلاً ويؤخذ كمعطى. ولكن الدراسات المستقبلية تأخذ الزمن بصــورة جديـّة، كإشكالية لا كمعطى. وتنظر إليه على أنه متغيـر تابع للخبرة الإنسانية والحضارية. وبالتالي هي دراسات تستهدف تحديد وتحليل وتقويم كل التطورات المستقبلية في حياة البشر في العالم أجمع بطريقة عقلانية موضوعية. بمعنى دراسة المحتمل والممكن والمفضل في المستقبل.
وبلغة العلم، فالدراسات المستقبلية لها عدة مبادئ أهمها: مبدأ الاستمرارية، وهو توقع المستقبل امتدادا للحاضر خاصة ما يتعلق بالحقائق العلمية. والثاني مبدأ التماثل، وهو توقع تكرار بعض أنماط الحوادث من وقت إلى آخر، وهو تراكم نفس الأحكام على نفس الوقائع. وهناك أساليب تقليدية منها: التنبؤ عن طريق التخمين، ويعتمد أساسا على الحدسية الفردية في تقدير بعض جوانب المستقبل، استقراء الاتجاهات الذي يرى أن الاتجاهات التي ثبتت في التاريخ القريب سوف تستمر في المستقبل، الإسقاطات وتعتمد على قراءة الاتجاهات الماضية وغيرها.
دون شك، فإن عرب اليوم أكثر الأمم حاجة إلى المستقبليات لمعرفة خريطة مستقبلهم ووجودهم. والدراسات المستقبلية عندنا تحتاج إلى مزيد من العمل عليها، والتعريف بها ونشرها ضمن الحقائب التعليمية والمناهج الدراسية لمؤسساتنا التعليمية. كما الحاجة إلى تفعيل دور البحث للخروج بالدراسات المستقبلية من دائرة الفهم إلى التطبيق والممارسة. وإيجاد أجوبة مناسبة لأسئلة التنمية السياسية والاجتماعية والفكرية. وإشكاليات الحرية والحوار والاعتراف بالآخر. وتعميم ثقافة الوعي والانفتاح والتعاون مع باقي الأمم والحضارات والثقافات في ترسيم ووضع وبناء مستقبل العالم. والانتباه إلى عدم حجب نظرنا عن رؤية المشاكل والأزمات الكثيرة التي تعاني منها مجتمعاتنا.
وأخذا ًفي الاعتبار لبعض التجارب العربية الواعدة، يبدو أن هناك مجموعة من العوامل والاعتبارات التي تؤثر بالسّلب في هذا الخصوص، تتّصل في مجملها بعدم استحضار التخطيط الاستراتيجي كأسلوب للتدبير. وغياب تراكمات علمية وازنة في هذا الشأن. إضافة إلى هشاشة الإمكانات المرصودة للبحث العلمي بشكل عام، وللجامعات بشكل خاص، مع ضعف الاستثمار في البحث العلمي. وعدم انفتاح صانعي القرار على مخرجاته. وغياب ثقافة مجتمعية. وانشغال عدد من الدول العربية بتدبير قضايا وأزمات راهنة استنفدت قدراتها وإمكانيتها.
دون شك فإن المعوقات التي تواجه المنطقة العربية كثيرة ومتعددة. الأمر الذي يجعلها من أقل دول العالم استفادة من الثورة الرقمية. أهم هذه الصعوبات هي قلة الإمكانيات قياسا بمتطلبات التطور التكنولوجي الذي يحتاج كلفة كبيرة. وانتشار الأمية الأبجدية في المنطقة العربية التي تصل 44 بالمئة من مجمل السكان، وارتفاع نسب الفقر التي تصل في بعض الأقطار العربية حد 60 بالمئة.
فنحن اليوم بحاجة إلى منهج الاستشراف لأنه مركب يسعى لإجراء مجموعة من التنبؤات المشروطة، أو المشاهد التي تفترض الواقع تارة، والمأمول فيه تارة أخرى. وتتمثل خصائص هذا المنهج في الشمولية، تجنب التحيز، الجمع بين الأسلوبين الكمي وغير الكمي، الترابط بين الأنساق وعدم الاكتفاء بنسق وحيد شامل، والقدرة على استخدام أسلوب المحاكاة.
بصراحة، عرب اليوم مازالوا مع الأسف يجترون الماضي بأحجاره وأمواته ومعلقاته، ويعيشون الحاضر على نفايات العالم، وملئ البطون، وفتاوى القتل والتكفير، ونشر ثقافة الغيبيات والاستبداد والفساد. أما المستقبل فلا نراه ولا يرانا. إنه مجرد حلم نتداوله نظريا. هو حرف سين للمستقبل، وحرف استفهام لا محل له من الإعراب!
ليس صدمة إن نقول: إن التكهن بمستقبل العرب سؤال كبير بمساراته وغموضه. فلا مستقبل لهم دون أصابتهم بفيروس علم المستقبليات من اجل استخدام بصيرتهم العقلية لفهم فيزياء المستقبل.
نحتاج إلى بَصِيرَة وليس إلى بَصَر!