استثمار الحزن
محمد السيد محسن
محمد السيد محسن
في روايتها ” سمعت كل شيء ” اثارت سارة الصراف الشجن في دواخلي حيث قرأت انعكاس الحرب على قلوب الامهات وعلى جدران البيوت العراقية التي لم تتعرف على الموت بهذا الدفق الذي فرضته الة الحرب العراقية الايرانية , بيد اني وقفت عند حالة نقلتها في الرواية كانت من أشد العالقات حماسة في ذاكرتي, وكانت تؤلمني لما رأيت فيها من استثمار للحزن عند الثكالى العراقيات , اللواتي يذهبن الى عزاء الموتى في المحلة سواء كان اولئك الموتى من الاقرباء او ممن ليس لديهن علاقة معهم , حيث تحرص اولاء الثكالى على التواجد في محفل اللطم والبكاء لتستثمر بتلك اللحظة ويبكين على احبابهن , ويمارسن الألم الشفيف.
أقول استوقفتني تلك اللحظة في الرواية لأنها حالة عايشتها في بيتنا في البصرة بعد فقد امي لوالدي .
انه الحزن الذي استثمرت فيه الثكالى دمعهن , فكن يبكين على احبتهن .
لم نكن نسمع بعد فقد والدي الا البكاء صباحا ومساءا , ولم نستطع ان نسمع الا اللحن الحزين من نعي الامهات والإناث , ذاك النعي السومري, رغم تواتر الموت ودفقه العالي الا ان الحزن كان يسيطر على القلوب والته الحرى هو الدمع والنحيب.
فكانت امي تناجي والدي المفارق وتقول له :
يلّي عني صرت مبعد
زوج الحمام اليوم مِفْرِد.
عدت لنفسي وأنا أقرأ الرواية فاكتشفت اننا نمارس الحزن عبر مؤسسة تعتمد نفس الاليات وهذا هو المثير في الامر , شعب يمارس الحزن منذ كلكامش ولحد الان , وينتظر الحزن ليعيش لحظة ألم جميل , فما الذي يفرض على زارع “الشلب” ان يغني بصوت يبعث في النفوس الألم ؟
وما الذي يجعل العراقيين اذا ضحكوا من قلوبهم يقول احدهم للاخر “ضحكة خير ان شاء الله” وكأن الضحك ممنوع في عرف الحياة عند العراقيين .
تلك ممارسة تثبت عبر الايام والتاريخ انها تستلهم كل تجارب الحزن الماضي لتعيد انتاجه عبر مؤسسة الحزن العابرة لكل مراحل الحياة , وتجاربها , اتقن العراقيون ممارستها . فالنساء يتقن في العراق فن البكاء , والرجال يتقنون فن ارسال الاخرين نحو الألم والبكاء.
ترافق هذا الاحساس بعد زيارتي الاخيرة لمقبرة وادي السلام , حيث شاهدت قبور اهلي واحبتي , وقبور بعض الاصدقاء , وسمعت نحيبا خفيا من بعض الزائرين في وقت عجزت عيناي عن ان تهمل دمعة في حضرة الميتين من اهلي واحبابي , ربما اكتنفني الخجل كالعادة فأنا لا أجيد البكاء أمام الاخرين , بيد أني قد ابكي لأبسط موقف بين حبيبين في مسلسل كارتوني , يلتقي فيه طفل بامه التي لم يرها منذ زمان.
عز الدمع في عيني في مقبرة النجف , فتذكرت والدة أحد اقربائي وهي تشارك في دفن ابنها “عدنان” ومعها جمع من النسوة , فما كان من احداهن الا ان قالت : گويّه ام الولد تمشي على رجليها.
كانت جملة صاعقة على ام عدنان لكنها كانت قاتلة لي حيث بدات بالانهيار وبكيت , فكنت وأنا في مقبرة النجف ابحث عن “حياة” بنت عمي حميد التي استفزت دمعي في تلك اللحظة كي تستفزني ثانية وابكي لأني مثل كل العراقيين والعراقيات اعتقد راسخا بأن في البكاء فائدة أكثر من الضحك.
انه الحزن الذي صادقه يوما مظفر النواب وكان يتحدث معه رجلا لرجل فيقول له : يا حزن ياريت اعرفك .. چنت اسويلك حديقة ياسمين وممشى من كاشي الفرح جدام بيتك … كنت أگلّك لا تجيني … وتمشي كل هاي المسافة … انا وحدي چان اجيتك
شكرا ايها الحزن